شعب غبي وناطحة سحاب سخيفة

شعب غبي وناطحة سحاب سخيفة!
القمص تادرس يعقوب ملطي


عالم جديد
انفتح باب الفلك، وخرج منه نوح وأولاده: حام وسام ويافث، وكان معهم نساؤهم. تطلعوا إلى العالم بعد الطوفان فوجدوه أكثر جمالاً مما كان عليه، وكأنه قد اغتسل أو تجدد بالمياه.
تزايد نسل نوح جدًا، وكان الكل يتحدثون معًا بلغة واحدة، كل منهم يفهم الآخر بسهولة.
لكن إن سافرنا الآن إلى الصين أو اليابان لا يمكننا أن نفهم ما يتكلم به الناس هناك، ولا هم يفهموننا، لذا وجب علينا أن نتعلم لغتهم إن أردنا الحديث معهم.
الحاجة إلى مدينة
إذ كان العالم لا يزال في بدايته كان نسل نوح وحدهم هم الذين يعيشون فيه. وكانوا يجولون في مساحة متسعة جدًا، على أرض منبسطة، حيث كانوا ينصبون خيامهم عليها.
اجتمعوا يومًا ما لمناقشة موضوع استقرارهم. وتوجهوا شرقًا حيث جاءوا إلى بقعة في أرض شنعار، وقرروا أن يبنوا هناك مدينة. قالوا: "بهذا نصنع لأنفسنا اسمًا. نسلك هناك، ونحسب المدينة وطننا، عوض الرحيل والترحال.
صنعوا لَبِنًا وشووه بالنار، ثم جاءوا بالحُمُر لربط اللبِن معًا، وبإرادة قوية وعزيمة راسخة بنوا مدينة متسعة جدًا وعظيمة.
تهامس الشعب فيما بينهم قائلين: "إننا قادرون على العمل بقوتنا وإرادتنا!" أما الملك نمرود فجمعهم، وقال لهم:
"إنكم عظماء وقادرون فقد أقمتم مدينة عظيمة،
لكن يوجد أمر آخر هام للغاية نحن في حاجة إليه.
يلزمنا أن نبني برجًا عظيمًا عاليًا جدًا يصل إلى السماء، ليكن ناطحة سحاب. فإن أرسل الله علينا طوفانًا نهرب إلى البرج فلا يقوى الله علينا!"
بناء ناطحة سحاب
استصوب الكل فكرته، ووضع الملك قائمة بالاحتياجات اللازمة لبناء ناطحة السحاب، وخصص عشر رجال من جيشه كقادة لإتمام هذا العمل الجبار.
كما اختار الملك أيضًا أناسًا حاذقين في كل أنواع العمل، وكلفهم بالأعمال الفنية وتدبير سير الخطة حتى لا يبقى شخص واحد لا يساهم في العمل.
اختار البعض الموقع المناسب، 
وقام آخرون بعمل التصميمات الهندسية،
وراجع البعض هذه التصميمات مرة ومرات، حتى يخرج العمل لائقًا بعظمة نمرود وشعبه.
وانشغلت النساء بجمع التبن ليُخلط مع الطين، ثم يُصب كلَبنٍ يحرق بالنار فيصير طوبًا أحمر.
وأُستخدمت الثيران في سحب الأخشاب ومواد البناء.
حمل بعض الفتيان والرجال الطمي على أكتافهم، وانشغل آخرون بالكروم وبقية المزروعات حتى يجد العاملون طعامًا يقتاتون به.
لم يُعف الأطفال من المساهمة في العمل، فكانوا يجمعون الحطب الذي يشعلون به النار لشيّ اللبِن.
واهتمت الفتيات بالأطفال الصغار والرضَّع حتى تتفرغ الأمهات للعمل، وبعضهن كن يرعين الماشية ويحلبن اللبَن.
أصدر نمرود أمرًا ملكيًا أن توقف كل الأعمال مهما كانت أهميتها حتى يشترك الكل في بناء ناطحة السحاب بسرعة، لئلا يرسل الله طوفانًا فيموتون.
كبرياء الإنسان
صرخ أحد العاملين من أعلى المبنى، قائلاً:
"إننا أعظم من الله!
سنبلغ السماء سريعًا ولا يقدر طوفانه أن يلحق بنا!"
لم يسر الله بغباوة هذا الشعب المتكبر، فقال:
"إنهم شعب واحد، ويتكلمون بلغة واحدة.
إن بنوا برجًا يبلغ السماء يظنون إنه لن يقف أمامهم عائق، ويحسبون إنني لا أقدر عليهم، فيزدادون تشامخًا.
يلزمهم أن يعرفوا ألا يستكبروا، 
وليدركوا أن البرج لا يقدر أن يخفيهم عني.
إنني أنزع عنهم القدرة على التكلم بلغة واحدة.
وإنني أبلبل لسانهم، فلا يفهم الواحد حديث الآخر،
بهذا يعجزون عن تكملة بناء البرج".
بلبلة الألسنة
ذات يوم دُهش الكل، إذ صارت بلبلة للألسنة، يتكلمون معًا بطريقة غبية. واحد ينطق بكلمات، وآخر لا يدرك معناها. 
يطلب بنَّاء لبِنًا فيقدمون له حَمْرة.
يُطلب من النساء ماء فيأتين بقشٍ.
يسأل أحدهم العمال أن يصعدوا فإذا بهم ينزلون.
صار الكل في حيرة، وحدث ارتباك أدى إلى غضب وثورة، فألقى الواحد ثم الثاني أدوات العمل، وخرجوا أفرادًا وجماعات من المنطقة، وتوقف العمل تمامًا.
تحوَّل الشعب إلى جماعات مختلفة متفرقة، كل جماعة تتكلم بلغة معينة تعيش معًا.
انطلقت الجماعات شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وتُركت ناطحة السحاب وحدها تنهار تدريجيًا بعوامل الزمن.
ودُعي الموضع "بابل"، لأنه هناك بلبل الله الألسنة، ونشأت اللغات، وصار نسل نوح هم أمم الأرض.
القمص تادرس يعقوب ملطي  

لا تمنع الخير عن أهله، حين يكون في طاقة يدك أن تفعله


العطاء

 أهميته - نوعيته - قمته 

إن حياة الإنسان تقاس أو تقيّم، بمقدار ما يقدّمه من عطاء. لذلك فكل يوم يمّر عليك، دون أن تعطى فيه شيئاً لغيرك، لا تحسب هذا اليوم من أيام حياتك...
ومن جهة العطاء، وضع سليمان الحكيم وصيتين ذهبيتين هما: "لا تمنع الخير عن أهله، حين يكون في طاقة يدك أن تفعله" "لا تقل لصاحبك اذهب وعُدْ غداً فأعطيك، وموجود عندك" الواجب اذن أن تعطى، ولا تؤجل العطاء إلى غدٍ.


فإن أنعم الله عليك ببعض الخيرات، فلا تظن أنها كلها لك وحدك!
بل الله - فيما يعطيك - إنما يختبرك: هل أنت بدورك سوف تعطى أيضاً؟ أم سوف تملكك الأنانية فتستأسر بكل شئ لذاتك دون غيرك!!
إن العطاء هو خروج من محبة الذات إلى محبة (الآخر). والعطاء يحمل فضيلة البذل، وشيئاً من فضيلة التجرد، وبعداً عن الجمع والتكويم.
والذى يتصف بالعطاء، يدل على أن المال ليس هو الذي يملُكه، بل هو الذي يملُك المال وينفقه في خير الآخرين.
والعطاء على درجات كثيرة: أولها التدرب على العطاء، ثم النمو فيه.



+ تدرب أولاً على أن كل ما يصلك من خير، إعطِ منه للغير.
وثِق أن ما تعطيه منه، إنما يجعل البركة فيما تبقى، فيزداد... وأيضاً ما تحصل عليه من محبة ودعاء ممن أعطيتهم يكون أكثر بمراحل من العطية ذاتها. وتكسب بذلك أصدقاء يشفعون فيك أمام الله...
وهكذا يكون العطاء خيراً للمُعطي، ولمن يتقبل العطية.
ومثال ذلك الأم التي تُعطي من لبنها لرضيعها: يسعد هذا الابن برضاعته، وتستريح الأم أيضاً وتسعد. وبنفس الوضع يسعد المُعطي حينما يرى فرح من يتقبل أيضاً عطاءه، فيفرح بفرحه. إن الشجرة تنتعش حينما يرويها الفلاح. كما ينتعش الفلاح بذلك ويفرح بانتعاش الشجرة...



ويتقدم الإنسان في العطاء، فيصل إلى السخاء والكرم:
فيعطي بسخاء وليس بتقتير، ولا بحسابٍ دقيق! ليس فقط ما يكفى بالكاد حاجة غيره، وإنما بالأكثر ما يفيض.
ويُعطي ليس فقط ما يطلبه الناس، وإنما ما يحتاجون إليه حتى دون أن يطلبوا. كالأب الذي يعطى لإبنه ما يحتاجه، ولا ينتظر حتى يطلب...
وهكذا الله - تبارك اسمه - يعطينا دون أن نطلب، وفوق ما نطلب...
وهو بهذا يقدم لنا درساً في العطاء وكيف يكون. سواء كان ذلك بالنسبة إلى الأفراد، أو إلى المجتمع جملةً... إلى الذين يعرفون كيف يُعبّرون عن احتياجاتهم، والذين ليست لهم القدرة على ذلك أو الوسيلة...



ويرتقي العطاء، فيصل إلى أن يُعطي الإنسان أفضل ما عنده:
ليس فقط الأشياء البالية أو المرفوضة منه. فليس في هذا احترام للذي يأخذ. إنما يُعطي الأشياء التي يتشرف بها الآخذ. وإن كان المثل يقول "إن الهدايا على قدر مُهديها"، فهل نقول أيضاً إن العطايا على قدر مُعطيها، مع احترام من تُعطىَ إليه...

ومن النبل أيضاً: العطاء من العوز، أى تُعطي ما أنت محتاج إليه!
وهنا ننبّه إلى أن فضيلة العطاء، ليست هي فقط للأغنياء القادرين الذين يفيض المال عنهم. إنما يقوم بها أيضاً أهل الخير الذين يدفعون من أعوازهم، وبهذا يُفضّلون غيرهم على أنفسهم. ولا شك أن هؤلاء الذين يعطون رغم عوزهم، يكونون عند الله أكثر أجراً، كما يكونون عند الناس أكثر تقديراً...

والعطاء الحقيقي هو العطاء بفرح:

فلا يُعطي الإنسان نتيجة ضغط وإضطرار، أو وهو ساخط ومتذمر، أو خوفاً من إنتقاد الناس!! فمن يفعل ذلك، إنما يُعطي من جيبه، وليس من قلبه، ولا ينال من الله أجراً على ما يُعطيه...
أما الذي يُعطي عن حب وإشفاق، ويفرح للخير الذي يقدمه لغيره بعطائه، فهذا هو المقبول أمام الله والناس... مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت.
قديماً كان الناس يعطون ما يسمى بالبكور:
أي أوائل الأشياء. فيُعطي الشخص أول نتاج زرعه أو غنمه. كما يُعطي أول ثمار شجره. وهكذا يبارك الله كل ما له في حقله.
على أن الأمر الآن لم يعد قاصراً على المجال الزراعي، بل إمتد إلى الوظائف والحرف. وأصبحت فضيلة البكور لها إتجاه آخر:
فيُمكن للموظف أن يقدّم أول مرتب له وأول علاوة له لعمل الخير. والمدرّس بالإضافة إلى المرتب يقدم ما يأخذه من أول درس خصوصي، وكذلك المحامي من أول أجر على قضية، والطبيب كذلك يدفع لأوجه الخير ما يصل إليه من أول كشف وأول عملية.. وهكذا الباقون...
وبهذا يبارك الله دخل كل هؤلاء، لأن أول إيراد لهم لم يكن لأنفسهم، بل كان عطاءً منهم لغيرهم...

 

ومن صفات العطاء أن يكون بمدامة:

لأن هناك من يدفع مرة أو مرتين، ثم يسأم ويملّ، ويرفض اذا طُلبَ منه أكثر... أما القلب الواسع فهو لا يملّ من طلبات المحتاجين، بل يُعطيهم مهما طلبوا، برضىّ مقدراً لإعوازهم...
كذلك لا يكون العطاء بكل تحقيق وتدقيق:
ولا بإهانة الطالبين، ووصفهم بالكذب(اقرأ مقالاً عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات) والاحتيال. فإن كان البعض يطلب عن غير إستحقاق، فليس الكل كذلك. ونحن في عصر، غالبية الناس فيه محتاجون: ليس فقط الذين يُقاسون من البطالة، بل أيضاً أصحاب الدخل المحدود، مهما كانت مرتباتهم. وبخاصة إن وقع أحدهم في مشكلة مالية، تتعلق بمرض أو عملية جراحية، أو تكاليف زواج إبنه، أو احتياج إلى سكن، وما إلى ذلك...

 

هناك نوع آخر من العطاء هو العطاء المعنوي، غير المادي:

كمن يُعطي كلمة عزاء لإنسان حزين، أو يُعطي كلمة تشجيع لمن هو يائس أو واقع في صغر النفس، أو يُعطي عبارة حنان لطفل يتيم، أو كلمة منفعة لمن يحتاج إليها، ومثل ذلك من الأمور...
كذلك يوصف بالعطاء من قدموا للناس فكراً نافعاً، أو فناً مفيداً، أو علماً وكان له تأثيره في راحة الناس أو في علاجهم أو في تعمير الأرض. ولا أقصد العلم أو الفن الذي أسئ استخدامه. كل أولئك كان في حياتهم عنصر العطاء، كل في تخصصه.

 

على أن قمة العطاء تتمثل في من يُعطي نفسه لأجل غيره:

أي أنه يفدي غيره بذاته... مثال ذلك من يفدي وطنه بحياته، أو يبذل حياته من أجل دينه أو من أجل مبدأ من المبادئ السامية، أو من يقدم حياته لإنقاذ غريق، أو إنقاذ أسرة من الحريق. ولا يوجد حب أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه عن أحبائه...
إن الإنسان يبذل نفسه لأجل غيره، يذكّرنا بالشمعة تذوب لكي تنير للآخرين، ويذكّرنا أيضاً بحبة البخور التي تحترق تماماً لكي تُعطي بخوراَ عطراَ للغير... إنها أمثلة واضحة لبذل الذات كاملة..

بقى سؤال هام، وهو: ماذا عن الذين يريدون أن يعطوا وليس لهم؟

إنه عطاء بالنية، والله هو فاحص القلوب، والعارف بقدرة كل شخص أو عدم قدرته. ونحن نُصلّي من أجلهم فيالكنيسة ونقول: "أذكر يا رب الذين يريدون أن يقدموا لك وليس لهم. عوّضهم عِوض الفانيات بالباقيات".

 لقداسة البابا شنودة الثالث


أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010