أمانةُ النجَّارِ ِ وشَهامتُه

بقلم: أدما حبيبي
لم يغُمض له جفنٌ طوال الليل. بل راح يتقلَّب في الفراش يُمنةً ويُسرةً عساه يغطُّ في نوم عميق لا يعود خلاله يفكر بما جرى ولا حتى بما سيجري في اليوم الذي يليه. إنه منهكُ القوى ولا بدَ من تناول قسط من الراحة قبل الرجوع إلى العمل في الغد. لكن يبدو أنَّ النوم قد فارقه حقاً وراحت الأفكار واحدة تلو الأخرى تغزو رأسه وتزعجه. فأنَّى له أن يستسلم للكرى وهو يجتاز مرحلةً حرجةً في حياته. إنها مشكلة عويصة بالحق! و لا بدَّ أنها ستنال منه و ستؤثر على مستقبله وارتباطه بمَنْ أحب. أجل لا بد أن تغيّر كل ما بناه من أحلامٍ وأمانٍ كان يصبو إلى تحقيقها بعد زواجه من مريم خطيبته. لكن في هذه الليلة انقلب كل شيء رأساً على عقب. ولابد من اتخاذ قرار حاسم وصعب. فهو الذي اعتاد أن يكون رزيناً في موازنة الأمور، عليه أن يأتي بقرار حكيمٍ وصائبٍ في آن، متلافياً أية فضيحة. وبعد تفكير عميق وصراع طويل وَصل إلى حل سليم لمشكلته العويصة فراح يصلي ويقول: آهٍ يا ربُّ أعني.. عليَّ أن أفسخ خطوبتي من مريم التي أحببت.. لكن بالسرّ ودون أن يعلم أحد. فأنا لا أريد أن أجلب أية فضيحة لمريم. لقد أخبرتني الكثير عن هذا الطفل المنتظر. لكن هل يمكن أن يكون هذا؟ الانفصال أجل الانفصال ، هذا هو الحل الأسلم لكلانا. أجل الحل الأسلم لكلانا…يا رب أعنّي…

وما أن انتهى من صلاته هذه حتى غطَّ في نوم عميق. وتراءى له ملاك الرب في حلم قائلا: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك . لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا."

أفاق يوسف من نومه وهو غير مدرك تماماً ماذا جرى. أهو في حلم أم في الحقيقة ؟ وراح يردد ويقول: هل حقا الطفل الذي تحمله مريم في أحشائها هو من عند الله؟ نعم بالتأكيد هذا ما قاله الملاك." انتابه للوقت فرح عجيب وصار طَرِباً لما حمله له الملاك من أخبار وتأكيدات. وشرع عندها يقول في داخله: الطفل هو إذن من عندك أنتَ يا رب.. كيف، أنا لا أفهم، لكن أشكرك لأنك بينّت لي الأمور على حقيقتها. بالحق ما أعظمك يا رب لأنك أوضحت لي هذه الأمور العجيبة التي لم أكن أدركها. إذن خطيبتي مريم بريئة و طاهرة . بالحق ما أعظمك أيها الرب لأنك أعلنت لي الحقيقة وبدّدت كل شكوكي ومخاوفي."…أشكرك…أشكرك.. عليَّ الآن أن أذهب إلى مريم لأخبرها بما حصل معي ليلة البارحة. لقد كانت بالفعل ليلة عظيمة.. عظيمة.

توجه يوسف إلى بيت مريم خطيبته ليبثّها الخبر السار وليشاركها بالإعلان الإلهي العجيب له عن الطفل الذي تحمِل، ويؤكد لها قولها. وهناك بشَّرها بكل ما جرى له في الحلم وبكل ما أعلنه له ملاك الرب . فسُرَّت مريم واغتبطت وشكرت الله على معاملاته العجيبة. وقطع يوسف عهداً بأنه لن يتركها أبداً بل سيبقى إلى جانبها يحمل مسؤولية هذه العائلة الفريدة التي بدأت تتكوّن بخطة إلهية عجيبة. نعم، أطاع يوسف الله ولم يخفْ أن يأخذ مريم امرأته.

وما أن انقضت بضعة أشهر حتى أخبر يوسف خطيبته بأنه ينبغي أن يصعدا معا إلى بيت لحم لكي يسجّلا في سجل عائلة داود وعشيرته التي ينحدران منها كلاهما. فلقد أصدر إمبراطور روما أغسطس قيصر أمراً هو الأول من نوعه لكي تُكتتب كل المسكونة. وعليه بدأ يوسف الرحلة الطويلة لأن بيت لحم كانت تبعد عن مدينة الناصرة بحوالي اثنتين وتسعين ميلا أي أكثر من مئة وخمسين كيلو مترا. كانت الرحلة شاقة ومتعبة وخاصة على مريم التي أوشكت على الإنجاب بين ليلة وضحاها. ولما رأى وجهها المتعب والمنهك ، وسمع أنينها الخافت راح يبحث عن مكان لقضاء تلك الليلة . لكن الحظ لم يحالفه بل طرق باباً بعد الآخر وخاناً بعد الآخر ولم يجد مكانا للمبيت بسبب كثرة الناس الذين توجهوا إلى الاكتتاب. وأخيرا قَبِل صاحب أحد الخانات لكي يأتي بمريم إلى الاصطبل حيث توضع الحيوانات ، ويبيت فيه تلك الليلة.

وما ان انتهى يوسف من حطِّ رحاله حتى تناهى إلى مسامعه آهات وأنات متتالية تتصاعد من مريم التي كانت على وشك الولادة. ترك كل شيء وذهب إليها ليكون إلى جانبها . أجل، ألم يعدها بأنه لن يتركها أبداً؟ بلى، هذه هي الساعة الموعودة . وبينما هو يسرح بأفكاره عن الطفل العجيب إذا بمريم تقول له: لقد أتت الساعة يا يوسف.. الآن .. فركض يوسف يطلب مساعدة من زوجة صاحب الخان ، وما هي إلا لحيظات حتى تناهى إلى مسامعه صوت بكاء الطفل الموعود. غمره فرح عجيب ، وراح يشكر الله على سلامة مريم والطفل. قمَّطت مريم الطفل وأضجعته في المذود و كانت أنفاس البقر والغنم تتصاعد في الإصطبل فتبعث في المكان الدفء المريح .

ولم ينقضِ يوم أو يومان حتى سمع يوسف دقات خفيفة على الباب. فقام ليفتح، وإذا به أمام مجموعة من الرعاة . وما أن دعاهم للدخول حتى بدأوا يقصون على يوسف ما شاهدوه في الليلة البهية . قالوا له والفرح يغمر قلوبهم: لقد ظهر لنا ملاك في قبة السماء وراح يبشرنا بخبر عظيم . وقال بأنه ولد اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلا مقمّطا مضجعا في مذود. أجل هذا ما قاله لنا الملاك.. فهل هذا صحيح؟ هل ولد المخلص الموعود به؟ فهِمَ عندها يوسف ماذا يعنون، وأدخلهم إلى داخل المغارة فرأوا الطفل يسوع في المذود تماماً كما قال لهم الملاك. ولما استفسر يوسف أكثر عن بشارة الملاك، راح الرعاة يقاطع بعضهم بعضا من شدة الفرح والغبطة التي حلت عليهم، وقالوا ليوسف: لم يظهر الملاك فحسب بل سرعان ما رافقه جمهور من الملائكة يسبحون الله جميعا ويقولون: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة.. أجل هذا ما أنشدوه… قال يوسف: نعم المجد لله ، المجد لله… وما كان من الرعاة بعد أن انتهوا من النشيد هذا إلا أن خروا أمام المذود وسجدوا للطفل يسوع وسبحوا الله على عطيته العجيبة التي لا يعبر عنها. نظر يوسف ومريم إلى بضعهما البعض نظرات تحمل معاني عميقة وأكيدة. نظرات كلها ثقة ومحبة وتأكيد . وشكرا هما الآخران الله على عطيته المجيدة وإتمام وعده للجميع. وكانت مريم تحفظ كل هذا الكلام متفكرة به في قلبها.

ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمَّى يوسف ومريم الطفل الجديد يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهكذا أطاع يوسف الله مرة أخرى لأنه صدق كلامه ووثق بوعده . فتبددّ الخوف من قلبه وتشدد وتشجع وفرح إذ رأى كلام الله ووعده يتحققان أمام عينيه. لقد مكَّنه إيمانه العميق بأن يسوع ليس شخصا عاديا وانفتاح قلبه لكلمات الله له، من أن يكون الأب الأرضي المختار ليسوع. وأنت قارئي ما هو موقفك من يسوع المسيح ؟ هل تثق به وتقرّ بأنه مخلصك وفاديك ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010