" لمّا جاء ملءُ الزمان"

أجل، لقد ولد المسيح في "ملء الزمان" ، أي في الوقت المحدد والمعيّن من قبل الله، وعندما اكتملت كل التحضيرات لمجيء هذا الملك المخلص. فمنذ فجر التاريخ لا بل منذ الأزل أخذ الله يعد ويحضر لمجيء المسيح. فلقد وعد الله الإنسان بمجيء المخلص من نسل المرأة، الذي سيسحق رأس الحية أي الشيطان. ثم أعلن الله لإبراهيم أنْ بنسله، أي بالمخلص المسيح، ستتبارك جميع أمم وقبائل الأرض. واختار الله قديما بني يعقوب أو بني إسرائيل وأعطاهم الشريعة، ووضع لهم نظام الذبائح الحيوانية، والطقوس والفرائض، ثم أرسل الله لهم الأنبياء الواحد تلو الآخر، الذين تنبأوا عن مجيء الملك المخلص وعصر ملكوت الله. كل هذا ليمهّد الله ويحضّر لمجيء المخلص المسيح وإعلان خلاصه لجميع الشعوب.

فلقد تنبأ النبي إشعياء عن العذراء التي ستحبل وتلد ابنا، يدعى عمانوئيل. وعن الولد الذي سيولد والإبن الذي سيُعطى، والذي يدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أباً أبديا رئيس السلام. وأنه هو الذي سيجلس على كرسي داود، ويعضد مملكته بالحق والبر إلى الأبد. وحدد النبي ميخا البلدة (بيت لحم) التي سيولد فيها هذا المخلص العجيب الذي سيملك على شعب الله، أي على المؤمنين به. وأعلن في نفس الوقت أن هذا المخلص الفريد الذي سيتجسد هو كائن منذ الأزل مع الله الآب.

أما النبي دانيال فلقد كشف عن العصر الذي سيولد فيه هذا المخلص الملك، والذي سيقيم فيه مملكة جديدة لن تنقرض أبدا وتثبت إلى الأبد، وهو عصر المملكة الرابعة في حلم تمثال الملك نبوخذ نصر، (سفر دانيال الأصحاح الثاني) وعصر الحيوان الرابع في رؤيا النبي دانيال (سفر دانيال الأصحاح السابع) أي عصر الإمبراطورية الرومانية. وفي نبؤة السبعين أسبوعاً حدد النبي دانيال بالضبط الزمن الذي سيولد فيه المخلص الملك المسيح (سفر دانيال الأصحاح التاسع). وكان الله قد أعدّ المسرح الثقافي الحضاري من خلال المملكة الثالثة التي هي المملكة اليونانية، حيث انتشرت اللغة اليونانية في معظم بقاع العالم القديم تمهيدا لمجيء المسيحية وانتشارها. ولقد أتمم الله وعده في نبؤة إرميا ( سفر إرميا الأصحاح الخامس والعشرون) بأن أعاد قسما من الشعب من سبي بابل، بعد سبعين سنة من سبي يهوذا، لكي ينتظر تحقق الوعد المجيد بمجيء هذا الملك المخلص.

وتنبأ النبي ملاخي الذي كان آخر أنبياء العهد القديم بأن الله سيرسل ملاكه الذي يهيء الطريق أمامه، وقال عنه في مكان آخر أنه "إيليا النبي". وكانت هذه نبؤة واضحة عن مجيء يوحنا المعمدان ليمهّد الطريق أمام الملك والمخلص المسيح. ثم تنبأ قائلا: "ويأتي بغتة إلى هيكله السيّد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرّون به هوذا يأتي قال رب الجنود." (ملاخي1:3) أي يأتي الرب يسوع المسيح الذي هو إبن الله المتجسد، السيد الذي يطلبونه وملاك العهد الذي يسرّون به.

وكانت هناك فترة صمت في الكتاب المقدس ما بين العهدين القديم والجديد امتدت لأربعة قرون توقف فيها الوحي. ثم ظهر يوحنا المعمدان الذي عند ولادته امتلأ أبوه زكريا من الروح القدس وتنبأ قائلا: "مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد شعبه وصنع فداء لشعبه. وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه. كما تكلّم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر. خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا. ليصنع رحمة مع آبائنا ويذكر عهده المقدس. القسم الذي حلف لإبراهيم أبينا أن يعطينا أننا بلا خوف مُنقذين من أيدي أعدائنا نعبده. بقداسة وبر قدّامه جميع أيام حياتنا. وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه. لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم." (لوقا68:1-70،76و77)

وبعد ولادة المسيح نجد سمعان الشيخ الذي كان ينتظر تحقق الرجاء، " قد أُوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. فأتى بالروح إلى الهيكل.." وعندما رأى الصبي يسوع هناك "أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال: الآن تطلق عبدك يا سيّد حسب قولك بسلام. لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم ومجدا لشعبك إسرائيل." (لوقا26:2و27أ، 28-32)

نستخلص من هذين المقطعين أن الروح القدس قد أعلن لنا وبكل وضوح أن ولادة المسيح كانت تحقيقاً لوعد الله بالخلاص منذ القديم، ولوعد الله لإبراهيم، وإتماما كاملا لكل نبؤات العهد القديم بمجيء الملك المخلص. لقد كانت هذه هي خطة الله التي أعدت منذ الأزل، أن يأتي يوحنا المعمدان أولا ممهّدا لمجيء المسيح وكارزا باقتراب ملكوت الله. ثم يأتي المسيح معلِنا نفس هذه الرسالة، ومتمما لخلاص الله بموته الكفاري على الصليب، وقيامته الظافرة من بين الأموات، وجلوسه عن يمين الله الآب في مركز القوة والسلطان.

وليس هذا فحسب بل إن رفض معظم أفراد الشعب القديم لهذا الملك المخلص ولملكوته، لم يبدّل من خطة الله بإعلان خلاصه وبدء ملكوته، ولم يتم تأجيلها إلى زمن آخر كما يظن البعض. فالله لم يكن غرضه بالأساس من إرسال المسيح تأسيس مملكة أرضية، بل على العكس كان الهدف منذ الأزل أن يعلن خلاصه وملكوته إلى جميع الشعوب عن طريق فداء المسيح. ولم تكن فترة العهد القديم ومعاملات الله مع الشعب قديما عن طريق الناموس والفرائض والذبائح الحيوانية والطقوس، سوى فترة مؤقتة، وإعداد وتحضير ورمز لهذا الهدف السامي وهذه الخطة الأزلية. وهاهو الرسول بولس بعد أن أكد أن مواعيد الله لإبراهيم قد تمّت كلها في المسيح، كتب قائلا: "فلماذا الناموس. قد زيد بسبب التعديات إلى أن يأتي النسل الذي قد وُعد له، مرتبا بملائكة في يد وسيط.. ولكن قبلما جاء الإيمان كنّا محروسين تحت الناموس مغلقا علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن. إذا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان." (غلاطية19:3،23و24) لنلاحظ هنا كلمة زيد، وهذا يؤكد أن الناموس قد وُضع لفترة مؤقتة، إلى أن يأتي المخلص الملك المسيح. فالناموس الذي كان عهدا شرطيا ما بين الله والإنسان، كان هو المؤدب للإنسان. أي اعتبر الرسول بولس أن الإنسان كان قاصرا في زمن الناموس، كالطفل أو الولد القاصر، ولهذا فقد كان بحاجة إلى وصي يؤدبه أي يشرف عليه، ألا وهو الناموس، إلى أن يأتي المسيح. أما الغرض من ذلك فقد كان، لكي يتحقق هدف الله الذي وضعه منذ البداية، أن يبرر الإنسان أي يخلصه عن طريق الإيمان بالمخلص المسيح، وليس عن طريق العمل بالناموس.

وعاد الرسول بولس في الأصحاح الرابع من غلاطية وأكد هذه الحقيقة، فشبه الإنسان في عهد الناموس بالإنسان القاصر الذي كان تحت أوصياء ووكلاء إلى الوقت المؤجل من أبيه. ثم استطرد قائلا: "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني." (غلاطية4:4)

لكن لما جاء ملء الزمان أي في الوقت المحدد المعين من قبل الله وبعد أن اكتملت كل التحضيرات، وبلغ الإنسان سن النضوج، أتمم الله وعده بأن أرسل الملك المخلص المسيح لكي يفتدي ويخلص كل من كان تحت الناموس. وبتعبير آخر إن مجيء المخلص يسوع المسيح قد أنهى هذا العهد المؤقت والمشروط بين الله والإنسان، أي عهد الناموس. ولم يعد بالتالي الإنسان في مرحلة الطفولة، أو بحاجة إلى هذا الوصي أو المؤدب.

إن ولادة المسيح تعني إذن بدء عصر جديد هو عصر الحقيقة، وانتهاء عصر الظلال والرموز والفرائض والذبائح والطقوس، وهو ما أكده لنا كاتب سفر العبرانيين بكل وضوح وجلاء. لا بل أعلن عن انتهاء العهد القديم كعهد بين الله والإنسان "فإذ قال جديدا عتّق الأول . وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال." (عبرانيين13:8) ولعل أجمل من عبّر عن هذه الحقيقة هو البشير يوحنا الذي كتب قائلا: "والكلمة صار جسدا وحلّ بيننا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب مملوءا نعمة وحقا.. ومن ملئه نحن جميعا أخذنا. ونعمة فوق نعمة. لأن الناموس بموسى أعطي. أما النعمة والحق فيسوع المسيح صارا." (يوحنا14:1، 16و17)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010