المحبة أهم من الإيمان والمعجزات

3- المحبة أهم من الإيمان والمعجزات (آية 2ب):

«إِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً».

في مصر في القرن العاشر الميلادي، أثناء حكم الفاطميين، ذهب وزير يهودي للخليفة وقال: «مكتوب في إنجيل المسيحيين أنه إن كان عند أحد إيمان كحبة خردل يحرك الجبل». فاستدعى الخليفة العزيز بالله الفاطمي البطريرك المصري وسأله عن صحة وجود هذه الآية. وعندما أجابه بوجودها في متى 21: 22 طلب منه تحريك جبل المقطم. ونتيجة لاستجابة الصلاة المؤمنة تحرك الجبل!

هناك إيمان عقلي يعرف ما جاء في الكتاب المقدس، ويجاوب على الأسئلة الدينية الصعبة، ويعرف أن يحل المشاكل الفقهية. لكنه إيمان العقل الفاهم، وليس إيمان القلب المطمئن. إنه كإيمان الشياطين الذين يؤمنون ويقشعرون، ولكنهم لا يتغيرون (يعقوب 2: 19).

والمحبة أعظم من الإيمان الذي يعمل المعجزات، فالإيمان يجري معجزة كبيرة (كتحريك جبل المقطم) مرة كل حقبة من الزمن. لكن المحبة تُمارس كل يوم، فهي لذلك أعظم من الإيمان.

ولا يُقلِّل الرسول بولس من أهمية الإيمان ولا من قيمة المعجزة، لكنه ينبهنا أن المحبة لازمة ومطلوبة كل يوم. الإيمان الذي ينقل الجبال يثير الدهشة، لكن المحبة تكسر القلب القاسي. قد يندهش إنسان ولا يؤمن، كما اندهش شيوخ اليهود من قيامة لعازر بعد موته بأربعة أيام، ولم يقدروا أن ينكروا أن المسيح أجرى المعجزة. ولكن هذا جعلهم يفكرون في قتل لعازر، حتى يختفي الدليل على قدرة المسيح وسلطانه! فالمعجزة لا تحرك القلب الذي لا يحب الله!

نقرأ في خروج 7: 11، 12 كيف ألقى موسى عصاه فصارت حيَّة، ولكن السحرة المصريين ألقوا عصيَّهم فصارت حيَّات! هذه معجزة. وفي ذات الأصحاح (آيتي20، 22) نقرأ كيف حوَّل موسى الماء إلى دم، فحوَّل السحرة الماء إلى دم كذلك. والفرق بين معجزة موسى ومعجزة السحرة أن معجزة موسى فيها محبة، لأنها تعلن اهتمام الرب بشعبه. أما سحرة فرعون فأجروا المعجزة ليحطموا معجزة موسى، وليطفئوا برهان الله، لأن قلوبهم الخالية من المحبة أرادت أن تحتفظ بالأسرى عبيداً. أما معجزة الله فهي معجزة محبة تطلِق الأسير حراً. وما أعظم الفرق بينهما! ولمثل سحرة فرعون يقول المسيح: «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ، بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!» (متى 7: 21-23).



4- المحبة أعظم من الحماسة والغيرة: (آية 3)

«إِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً» (آية 3).

يقدم كثير من الناس العطاء بغير محبة، ولكن رغبةً في الحصول على مدح الآخرين، وللافتخار الشخصي. وقد يعطي الإنسان كتكليف واجب مفروض عليه. ولكن ما أعظم الفرق بين عطية التفاخر أو الإجبار وعطية المحبة. نقرأ في مرقس 12: 41-44 « وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاساً فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيراً. 42فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. 43فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ 44لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا كُلَّ مَعِيشَتِهَا ». فالرب يرى روح العطاء وكيفيته، ولا يقدِّر إلا عطاء المحبة، العطاء الحقيقي.

«إِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي » للفقراء بدون محبة، سينتفع الفقراء، لكن المعطي لا ينال من الله شيئاً!

« إِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ » فهناك من يقِّدم جسده حتى يحترق كله، حباً في الله، كما شهد نبوخذ نصر للفتية الثلاثة وقال: «تَبَارَكَ إِلَهُ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُو الَّذِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَأَنْقَذَ عَبِيدَهُ الَّذِينَ اتَّكَلُوا عَلَيْهِ وَغَيَّرُوا كَلِمَةَ الْمَلِكِ وَأَسْلَمُوا أَجْسَادَهُمْ لِكَيْ لاَ يَعْبُدُوا أَوْ يَسْجُدُوا لإِلَهٍ غَيْرِ إِلَهِهِمْ » (دانيال 3: 28). فنجى الرب أجساد الفتيان الثلاثة من الحريق لأنهم سلموها للأتون حباً له. ولكن هناك من يسلِّم جسده حتى يحترق بُغضاً للناس، كما فعل جنود الحروب الصليبية، فماتوا واحترقوا وهم يقتلون ويسفكون الدماء، رغم أن سلاح المسيح هو سيف الروح الذي هو كلمة الله (أفسس 6: 17)، ورغم أنه قال: « لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ » (متى 26: 52) .

يعلمنا الرسول بولس في هذه الآيات الثلاث أن المحبة أعظم الكل. هي أعظم من المواهب، وأعظم من النبوَّة والتعليم، وأعظم من الإيمان والمعجزات، وأعظم من الحماسة والغيرة.

إن مشكلتنا الروحية الأولى هي عدم ترتيب أولوياتنا. أولويتنا الأولى هي المحبة، ثم المواهب، ثم النبوة والعلم، وبعدها الإيمان والمعجزات، ثم الحماسة والغيرة.

ليعلمنا الله أن نحب، ليس فقط الذين يحبوننا ولكن الذين يسيئون إلينا أيضاً، كما أحبنا المسيح وأسلم نفسه لأجلنا.



صلاة

يا أبانا السماوي، علَّمتنا المحبة في كلمتك وفي المسيح لأنك أنت محبة، وقد أحببتنا ونحن أعداء، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا. وبفضل كفارته غُفرت خطايانا. نلتمس أن تجعل حياتنا حياة المحبة، لنحيا مزمور المحبة بكل القلب والفكر، ولنحب بالطريقة التي تحب أنت بها. في شفاعة المسيح. آمين.






صفات المحبة



«4الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، 5وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَ، 6وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ. 7وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. 8اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَداً» (1كورنثوس 13: 4-8أ)









المحبَّة المتأنية الرفيقة


«الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ» (1كورنثوس 13: 4)



بعد أن رأينا أهمية المحبة، نتأمل صفاتها (آيات 4-7) التي تبدأ بأنها «تتأنى وترفق» ويقدم الرسول بولس خمس عشرة صفة للمحبة، نتأمل في هذا الفصل أول صفتين منها:



1- المحبة تتأنى: بمعنى أنها طويلة الروح والأناة، بطيئة الغضب، لا تقطع علاقة مع أحد، وتعطي فرصة متكررة جديدة للجميع، حتى للمسيئين إليها.

2- المحبة ترفُق: لأنها رقيقة، ومعناها في اليونانية «حلوة مع الجميع».



أعطانا الله النموذج الأعلى للتأني والرفق. فعندما سقط أبوانا الأولان في العصيان جاءهما الله يمد يد المحبة، فقال آدم لله: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ» (تكوين 3: 10) وألقى آدم اللوم على حواء، وألقت حواء اللوم على الحية. وبالرغم من هذا رتَّب الله في محبته الخلاص والفداء لأبوينا الأوّلَيْن، فأعطاهما الوعد العظيم أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15). ثم سترهما بأقمصة من جلد (تكوين 3: 21). فما أعظم محبة الله التي تأنَّت وترفَّقت، فوعدت بمجيء المخلص، ثم سترت، وأعطت شريعة موسى وذبائحها الحيوانية، التي كانت رمزاً لحمل الله الذي يرفع خطية العالم، والتي بذبيحة نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد لنا فداء أبدياً (يوحنا 1: 27 وعبرانيين 9: 12).

كان يمكن أن الله يُهلك آدم ويبدأ بداية جديدة بإنسان آخر، لكن الله في رفقه وأناته أعطى آدم فرصة ثانية.

ونرى أناة الله ورفقه واضحة في كل تاريخ بني إسرائيل، وهو يرسل إليهم نبياً بعد نبي، ويعلمهم درساً بعد درس، رغم أنهم يكررون ارتكاب نفس الخطأ. وفي قصة حياة النبي هوشع نرى الله يدرب نبيَّه لتكون له مشاعر مثل مشاعر الله من نحو شعبه، فطلب الله من هوشع أن يرتبط بامرأة ساقطة كما ارتبط الله بشعبٍ ساقط. ولكن السيدة الساقطة عاودت السقوط، وفي سقوطها الأول قلَّت قيمتها، أما في سقوطها المتكرر فقد ضاعت كل قيمتها. ولكن الله كلَّف هوشع أن يتزوجها من جديد، لأنه أراد أن يقول لهوشع وللشعب كله إنه يحب شعبه بالرغم من كل خطاياهم، وقال: « «لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَماً أَحْبَبْتُهُ وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي.. وَأَنَا دَرَّجْتُ أَفْرَايِمَ مُمْسِكاً إِيَّاهُمْ بِأَذْرُعِهِمْ.. كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ الْبَشَرِ بِرُبُطِ الْمَحَبَّةِ وَكُنْتُ لَهُمْ كَمَنْ يَرْفَعُ النِّيرَ عَنْ أَعْنَاقِهِمْ وَمَدَدْتُ إِلَيْهِ مُطْعِماً إِيَّاهُ (هوشع 11: 1-4).

فبالرغم من خطية الشعب وخيانته لأوامر الرب، عبَّر لهم عن حبه، وعن مشاعر أبوته، وهو يدرِّجهم ويعلِّمهم المشي، ويمد لهم يده بالطعام! ثم يقول: « كَيْفَ أَجْعَلُكَ يَا أَفْرَايِمُ أُصَيِّرُكَ يَا إِسْرَائِيلُ؟! كَيْفَ أَجْعَلُكَ كَأَدَمَةَ أَصْنَعُكَ كَصَبُويِيمَ؟ » (هوشع 11: 8) أي: كيف أخرب بلادكم (رغم خطاياكم) فتصيرون كأدمة وصبوييم (تكوين 10: 19) وهما مدينتان من مدن دائرة سدوم وعمورة التي أحرقها الله بسبب خطاياهم؟ ثم يقول الرب: « قَدِ انْقَلَبَ عَلَيَّ قَلْبِي. اضْطَرَمَتْ مَرَاحِمِي جَمِيعاً ‍». فالرب لا يحتمل أن يبيدهم، لأن محبته لهم تتأنى عليهم وترفق بهم.

ونرى المحبة نفسها التي تتأنى وترفق في معاملات المسيح مع تلاميذه الذين أحبهم وعلَّمهم وساروا معه ثلاث سنوات. ولكنهم عند الصليب خافوا جميعاً وهربوا. ومع ذلك قال المسيح للمريمتين بعد قيامته: « اذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي» (متى 28: 10).

وقد أوضح المسيح أناة المحبة التي ترفق في مثل شجرة التين التي لم تثمر، فقال صاحبها للعامل في أرضه: « ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هَذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟ 8فَأَجَابَ: يَا سَيِّدُ اتْرُكْهَا هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضاً حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا» (لوقا 13: 7-9).

وهذا التعامل الإلهي المتأني الرفيق واضحٌ في حياتنا نحن واختباراتنا اليومية، فالله يباركنا ويُنعم علينا، مع أننا نخطئ ونرتد عنه ونتذمر عليه. ولكنه في محبته الكاملة يحبنا رغم ضعفنا. وهذا يدفعنا لأن نحيا حياة المحبة التي تتأنى وترفق مع الجميع «مُتَمَثِّلِينَ بِاللهِ كَأَوْلادٍ أَحِبَّاءَ» (أفسس 5: 1).

فلندرس كيف نحيا حياة المحبة، بأن نرى:



1- صفات التأني والرفق



(أ) المحبة المتأنية الرفيقة طويلة الأناة بغير يأس:

المحبة التي تتأنى وترفق تطيل أناتها، ولا تفقد أملها، وتعطي الآخرين فرصة ثانية، كما أن الله دائماً يعطيها فرصة ثانية عندما تضيِّع فرصة أو تسيء التصرُّف.

عندما يسقط المؤمن في الخطأ يعلم أن الله يحبه ويقلب له صفحة جديدة فيقول: « لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي. إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ. إِذَا جَلَسْتُ فِي الظُّلْمَةِ فَالرَّبُّ نُورٌ لِي. أَحْتَمِلُ غَضَبَ الرَّبِّ لأَنِّي أَخْطَأْتُ إِلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ دَعْوَايَ وَيُجْرِيَ حَقِّي. سَيُخْرِجُنِي إِلَى النُّورِ. سَأَنْظُرُ بِرَّهُ» (ميخا 7: 8، 9) فالرب ينقل المؤمن إلى النور ويُريه البر السماوي. وهذا أعظم دافع للمؤمن الذي متَّعه الله بالمواهب الروحية أن يتصرف مع غيره كما يتصرف الرب معه.

لقد تأنى المسيح على تلميذه توما الذي شك في حقيقة القيامة، وقال: « إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ لاَ أُومِنْ». فظهر المسيح لتلاميذه وبينهم توما، وقال له: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً». فهتف توما: «رَبِّي وَإِلَهِي» (يوحنا 20: 24-28).



(ب) المحبة المتأنية الرفيقة هي التي تستمر ولا تتوقف:

لا تتوقف المحبة المتأنية المترفِّقة أبداً، فهي تستمر في عطائها برغم الإساءات المتكررة.

قام أبشالوم بمحاولة انقلاب فاشلة ضد أبيه الملك داود، وانقسم بنو إسرائيل إلى معسكرين: معسكر في صف أبشالوم، والآخر في صف داود. ولكن محبة داود المتأنية على ولده جعلته يوصي أتباعه به ويقول: «تَرَفَّقُوا بِالْفَتَى أَبْشَالُومَ» (2صموئيل18: 5). لقد رأى في ابنه الثائر عليه «فتى» قليل الخبرة فأشفق عليه مما كان يفعله! وعندما سمع داود أن ابنه قُتل صرخ في ألم: «يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ! يَا لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضاً عَنْكَ».

ارتكب شاب عدة جرائم، فسُجن، وكانت أمه تذهب دوماً لتزوره في السجن وتحمل له الهدايا حتى استدانت وتعبت صحتها. واستمرت تفعل هذا رغم أنه كان يستقبلها في كل زيارة بالإساءة. وكان للأم جار نصحها أن تتوقف عن زيارته، لأنها تعبت ولم تلقَ من ابنها أي تقدير. فقالت لجارها: «نعم هو لا يقدِّر ما أفعله، لكني أقدّره هو، فإن له أماً واحدة، لم يَبْقَ من عمرها إلا القليل!». هذه هي محبة الأم التي تستمر لأنها المحبة التي تتأنى وترفق، صاحبة النَّفس الطويل، القادرة على العطاء الذي لا ينقطع، لأن نبعها في السماء.



(ج) المحبة المتأنية الرفيقة تحفظ سلامها الداخلي:

المحبة تتأنى وترفق حتى وسط المتاعب والآلام، فتملأ قلب صاحبها سلاماً عميقاً يستمده من الرب الذي قال: «بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لوقا 21: 19). صحيح أن المحبة تنفع الذين نحبهم، ولكنها قبل ذلك تنفعنا ننحن الذين نحب، لأننا بها نقتني أنفسنا.



(د) المحبة المتأنية تتلقى الصدمات:

هناك نصيحة حكيمة تقول: «لا تتوقَّع كثيراً من الناس لكيلا يخيب أملك. ولكن كن عند حُسن ظن الناس الذين يتوقعون الخير منك». ولا يمكن أن تنفذ هذه الوصية إلا المحبة الرفيقة لأنها ينبوع متدفق فائض يستمد فيضه من مصادر دائمة الجريان، هي نهر محبة الفادي الذي لا يُحدّ.

وصاحب المحبة المتأنية لا يتوقف عن المحبة حتى لو صدموه. وهو يتصرف كالمسيح الذي شفى أذن ملخس، مع أن ملخس جاء ليلقي القبض عليه. فقد تلقّى المسيح الصدمة من ملخس بغير أن تصدمه، بل أن المسيح أحسن إليه.

قال الرسول بولس لقسوس كنيسة أفسس: « اِحْتَرِزُوا إِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً لِتَرْعُوا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ.. لِذَلِكَ اسْهَرُوا مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَاراً لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ» (أعمال 20: 28، 31).



2- اعتراضات على التأني والرِّفق

يشكو كثيرون من شريك الحياة أو من الأبناء، أو من رئيس العمل أو الشريك فيه، أو من الجيران. وعندما تنصحهم بعدم ردّ الإساءة بإساءة يعترضون.

وأذكر ثلاثة اعتراضات على التأني والرفق، ثم أورد الردود عليها:

(أ) قال أحدهم:

«الإساءة التي أُسئت بها إساءة بالغة للغاية. أساءوني جداً، وأنا لا أستطيع أن أتأنى وأرفق، لأني جُرحت جُرحاً بليغاً».

ولهذا الشخص نقدم ثلاث نصائح:

* لا يمكن أن تكون الإساءة التي أساء الناس بها إليك أكبر من إساءتك أنت للرب ولغيرك من الناس، ومع ذلك احتملك الرب. فنحن عادة ننسى ما يسيء به غيرنا إلينا، ولكننا نتذكر ما يسيء به الآخرون إلينا، وعلينا أن نتذكر النصيحة الرسولية: « َكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضاً فِي الْمَسِيحِ» (أفسس 4: 32).

ولنا في الصلاة الربانية، وفي تعليق المسيح عليها، ما يساعدنا على أن نكون ذوي محبة متأنية رفيقة. فقد علمنا المسيح أن نصلي: « اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا.. فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاتِكُمْ » (متى 6: 12، 14، 15).

لقد قال المسيح إنه سيسامح الإنسان المسيء والإنسان المُساء إليه، فلنسامح كما سامحنا الرب، ولنصلِّ أن يتعامل الرب مع المسيء إلينا ويسامحه كما تعامل الرب معنا وسامحنا.



* وهناك نصيحة ثانية لمن يقول إن الإساءات ضده بالغة، هي أن المسيح يحمل معك الإساءة التي صدرت ضدك. والدليل على ذلك أنه عندما مدّ شاول الطرسوسي يده ليسيء للمؤمنين قال له المسيح: « «شَاوُلُ شَاوُلُ لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟.. أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ» (أعمال 9: 4، 5). ونقرأ في نبوَّة زكريا: « مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ » (زكريا 2: 8) والمعنى أن من يسيء إلينا يؤذي نفسه، أو أنه يسيء لله نفسه. فالمسيح في آلامنا يحس بنا ويتألم معنا، كما يقول الله بفم إشعياء النبي: « فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ الأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ» (63: 9).

لقد دعاك المسيح لتحمل نيره الهيِّن والخفيف، وهو نير طاعة وصاياه. فإن كنت تحمل نير المسيح، طاعةً لأمره: « اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ » (متى 11: 29) فسيحمل هو النير معك.



* وهنا نصيحة ثالثة لمن يقول إن الإساءات ضده بالغة، هي قول المسيح: « كُنْ أَمِيناً إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ » (رؤيا 2: 10). صحيح إن الإساءة بالغة ولكن أمانتنا مع الرب تجعلنا نحتمل ونحب المحبة المتأنية الرفيقة، لنستحق لقب «أمناء إلى الموت» فننال «إكليل الحياة».



(ب) وقال صاحب الاحتجاج الثاني:

«المسيئون لا يتوَّقفون عن إيقاع الأذى بي، ولا يتوبون، ولا يبدو أنهم سيغيرون موقفهم معي».

ونسأل صاحب هذا الاحتجاج: هل إساءتهم ترجع إلى خطأ ارتكبته أنت، أم لأنهم هم مخطئون؟ ثم لنستمع إلى نصيحة الرسول بطرس:

« أَيُّهَا الْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ، لَيْسَ لِلصَّالِحِينَ الْمُتَرَفِّقِينَ فَقَطْ، بَلْ لِلْعُنَفَاءِ أَيْضاً. لأَنَّ هَذَا فَضْلٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ يَحْتَمِلُ أَحْزَاناً مُتَأَلِّماً بِالظُّلْمِ. لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ الْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهَذَا فَضْلٌ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّكُمْ لِهَذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ، بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ. الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ» (1بطرس 2: 18-24).

لنمتحن أنفسنا: هل نتألم بسبب خطأ ارتكبناه؟ إن كان الأمر كذلك، فلنتُب إلى الرب فيرحمنا وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران (إشعياء 55: 7). أما إن كنت تتألم وأنت فاعلٌ خيراً، فنِعِمّا لك. أرجوك أن تثبِّت نظرك على المسيح، الذي تألم وهو يخدم ويطلب ويخلص ما قد هلك، فأنت تتشبَّه به وهو يعطيك النجاة.



(ج) وقال صاحب الاحتجاج الثالث:

«لو تأنيتُ عليهم أو كنت رفيقاً معهم، فإنهم يزيدون مضايقاتهم وإساءاتهم».

وللرد نقول:

* من أين تعرف أن الأعداء سيزيدون مضايقاتهم لك غداً؟ لا يستطيع أحد منا أن يتنبأ بما يأتي به الغد، فالغد في يد الرب. « فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ » (متى 6: 34) سيتدخل الرب في الوقت المناسب ليغير المضايقة إلى خير، كما قال يوسف لإخوته: « هَلْ أَنَا مَكَانَ اللهِ؟ 20أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرّاً، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْراً » (تكوين 50: 19، 20).

* وهناك حقيقة أخرى: إن الله يقف دوماً إلى جانب الذين يطيعون وصاياه. قال القديس أغسطينوس: «اعمل إرادة الله كأنها إرادتك، يعمل الله إرادتك كأنها إرادته». عندما تطيع الله يتحمل هو سبحانه كل ما ينتج عن طاعة أوامره. يأمرنا الرسول بولس « جِدُّوا لِلْمَوَاهِبِ الْحُسْنَى. وَأَيْضاً أُرِيكُمْ طَرِيقاً أَفْضَلَ: الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ». فلو أننا أطعنا هذا الأمر المبارك يصبح الرب وليَّ أمرنا، والمسؤول عنا. والبركة دائماً على رأس المطيع.

* وهناك حقيقة ثالثة: ما أعظم الوصية الرسولية: « لاَ تُجَازُوا أَحَداً عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ.. إِنْ كَانَ مُمْكِناً فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ. لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ بَلْ أَعْطُوا مَكَاناً لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ. فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ، وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هَذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ». لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ، بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ» (رومية 12: 17-21).

المحبة التي تتأنى وترفق تغيِّر حياة المحب والمحبوب. إنها ترد الضال البعيد إلى بيت الآب. وكما أن محبة الله المتأنية الرفيقة تقودك لتفتح قلبك للمسيح المخلِّص ليملك على قلبك بمحبته، قدِّم أنت المحبة نفسها لمن يسيء إليك، لتردّ نفسه وتهديه إلى سبل البر.



صلاة



يا صاحب الأناة والرفق، علمني طول الأناة والرفق كما أنك طويل الأناة معي. لقد احتملتني حتى فتحتُ قلبي لك. ساعدني لأحتمل الذين يسيئون إليَّ، من أجل خاطرك، ومن أجل خاطرهم هم، ليعرفوك، فنقتني أنفسنا بصبرنا. ساعدني ليكون لي الإيمان العامل بالمحبة. اغفر لي تذمُّري وضيق صدري، وتوِّبني إليك لأحبَّك وأحب الذين تحبهم. فنكون تلاميذ يسوع. في شفاعته استجبنا. آمين.









»المحبة لا تحسد«



(1كورنثوس 13: 4)



الإيمان الحقيقي هو الإيمان العامل بالمحبة، أما الإيمان الخالي من العمل فهو إيمان الشياطين الذين يؤمنون ويقشعرون (يعقوب 2: 19). ولا بد أن تظهر ثمار الإيمان الحقيقي في حياة المؤمن كل يوم. وعلينا كمؤمنين نحب المسيح، أن نقرأ أصحاح المحبة كثيراً، أكثر مما تعودنا أن نقرأه، لندرك نوعية حياة المحبة التي يريدنا الرب أن نحياها.

ونتأمل في هذا الفصل صفة أخرى من صفات المحبة، وهي: «المحبة لا تحسد».

الحسد هو إحساسٌ بالضيق عند رؤية شخصٍ يملك ما نعتقد أننا لا نملكه. وقد يكون الحسد مجرد موقف فكري (كما يقول القديس توما الأكويني) نحزن فيه من نجاح الآخرين. وربما كان هذا حال مؤمني كورنثوس، لأن أصحاب «المواهب» كانوا ينظرون نظرة تحقير لمن ليس لهم مواهب، أما الذين لا يملكون «مواهب» فقد نظروا نظرة حسد لأصحاب المواهب! مجرد موقف فكري.

ولكن قد يتصعَّد الحسد من مجرد فكري، ليصبح عُنفاً يُوقِع الأذى والضرر بالمحسود، كما فعل إخوة يوسف لما رأوه يلبس قميصاً ملوناً ليس عندهم مثله، وتصعَّد حسدهم حتى ألقوه في البئر الخالية من الماء، ثم باعوه لقافلة الإسماعيليين المسافرة إلى مصر.

والحسد دوماً يؤذي الحاسد ويدمر سلامه النفسي، لأن الحاسد يركز نظره على ما يملكه الآخرون، فلا يرى ما عنده هو، ولذلك لا يتمتع بما أنعم الله به عليه. وهذه النظرة الكئيبة لما عند الناس تجعله دائماً في بؤس.

رسم فنان إيطالي اسمه جيوتو GIOTTO (وهو صديق لدانتي) على حائط كنيسة في بادوا PADUA بإيطاليا صورة للحسد، رسم فيها شخصاً له أذنان طويلتان ليسمع بهما أية إشاعة سيئة تضر الآخرين، ورسم له لساناً على شكل حيَّة ليسمِّم به سمعة الآخرين. ويتكوَّر اللسان حتى يلدغ الحاسد عيني نفسه! وقد أراد الفنان أن يقول: إن الحاسد يُصيب نفسه بالعمى ويضيِّع نور عينيه، حتى لا يعود يرى ما عنده، فيُسيء للآخرين.

ونقتبس آيتين كتابيتين من عهدي الكتاب المقدس (القديم والجديد) تنهياننا عن الحسد:

الأولى: « لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَارِ، وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ الإِثْمِ » (مزمور 37: 1).

والثانية: « لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضاً » (غلاطية 5: 26). أي لا نصرف وقتنا في النظر إلى ما عند غيرنا فلا نشكر الله على ما أعطانا.

ومن الغريب أن المؤمن قد يحسد الشرير الناجح في حياته المادية! يقول آساف: « لأَنِّي غِرْتُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ » (مزمور 73: 3). وهذا يبرهن لنا أنه لا يوجد إنسانٌ خالٍ من الخطية، ولا توجد حياة خالية من التجربة. وعلى المؤمنين دوماً أن يكونوا يقظين لتجارب إبليس حتى لا يقعوا في خطايا حقيرة كالحسد، وليمتلئوا بسلام الله حتى يَنْعموا بسلامة الروح في الرب.



وأذكر أربعة أمور تنصرنا على الحسد:

1- الشكر ينصرنا على الحسد، فالمحبة تشكر بينما الحسد يتذمر:

عندما قتل داود جليات هتفت نساء بني إسرائيل: «ضَرَبَ شَاوُلُ أُلُوفَهُ وَدَاوُدُ رَبَوَاتِهِ». فَغَضِبَ شَاوُلُ جِدّاً وَسَاءَ هَذَا الْكَلاَمُ فِي عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: «أَعْطَيْنَ دَاوُدَ رَبَوَاتٍ وَأَمَّا أَنَا فَأَعْطَيْنَنِي الأُلُوفَ! وَبَعْدُ فَقَطْ تَبْقَى لَهُ الْمَمْلَكَةُ!» (1صموئيل 18: 7، 8).

لقد قتل داود ربواته فعلاً، فهرب الأعداء واستراح شعب الرب منهم فترة طويلة. ولم يقتل شاول ألوفاً، فقد وقف الأعداء أمامه مدة أربعين يوماً، يسخرون منه ويهزأون به، دون أن يقدر شاول على عمل شيء! كانت أغنية الشكر صادقة بالنسبة لداود، وكريمة أكثر من اللازم مع شاول، ولكن الحسد في نفس شاول حرمه من الفرح بالنصر. وكانت نتيجة حسده أنه دمَّر ذاته، فترك قصره وعرشه وأُبَّهة المُلك، ليجري من بلد لأخرى سعياً وراء داود ليقتله. كان داود مجرد جندي عند شاول الملك صاحب العرش. لكن مرض الحسد في قلبه جعله دائم التذمر، فدمَّر حياته، وأشقى شعبه، وأرهب داود بغير فائدة. وأخيراً مات شاول منتحراً، وصار داود ملكاً. ولو فكر شاول بعقل لاعتبر داود أحد أسلحة الرب. إنه جندي من جنوده، أعطى الرب نصراً على يديه. ولكن الحسد أعمى عيني شاول عن الحق.

وعلى العكس من شاول نرى داود الذي يشكر، فالمحبة تشكر ولا تتذمر. ويقول داود: « بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ. الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ. الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ. الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ. الَّذِي يُشْبِعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ » (مزمور 103: 1-5) فلنحول نظرنا عما عند الآخرين، ولنشكر على ما عندنا، فنستريح إلى الأبد من خطية الحسد.



2- التأمل في ما عندنا ينصرنا على الحسد، فالمحبة ترى ما عندها بينما الحسد يرى ما ينقصه:

نقرأ في سفر العدد عن النتيجة السيئة التي حلت ببني قورح لما حسدوا موسى وهارون على خدمتهما.

« أَخَذَ قُورَحُ بْنُ يِصْهَارَ بْنِ قَهَاتَ بْنِ لاوِي، وَدَاثَانُ وَأَبِيرَامُ ابْنَا أَلِيآبَ، وَأُونُ بْنُ فَالتَ (بَنُو رَأُوبَيْنَ) يُقَاوِمُونَ مُوسَى مَعَ أُنَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِئَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رُؤَسَاءِ الجَمَاعَةِ مَدْعُوِّينَ لِلاِجْتِمَاعِ ذَوِي اسْمٍ. فَاجْتَمَعُوا عَلى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَالُوا لهُمَا: «كَفَاكُمَا! إِنَّ كُل الجَمَاعَةِ بِأَسْرِهَا مُقَدَّسَةٌ وَفِي وَسَطِهَا الرَّبُّ. فَمَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلى جَمَاعَةِ الرَّبِّ؟» (العدد 16: 1-3).

وفي تأمل هذه الشكوى، نرى أن نصف كلام أصحابها صحيح، فالجماعة فعلاً مقدسة لأن الرب في وسطها. ولكن النصف الثاني هو السيء: « مَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلى جَمَاعَةِ الرَّبِّ؟ ». فقد كانت قيادة موسى وهارون لجماعة الرب تعييناً من الله، لا كبرياءً، فقد دعاهما الله وكلفهما وأرسلهما لفرعون، واستخدمهما بركة للشعب، فأخرجاه من العبودية. وكان على بني قورح أن يكونوا عقلاء يشكرون على البركة التي أعطاها الله لهم ولشعبهم على يد موسى وهارون. لكن الحسد الذي ملأ قلوبهم حرمهم من البركة، ثم حرمهم من الحياة، لأن الأرض فتحت فاها وابتلعتهم وكل مالهم، فهبطوا أحياء إلى الهاوية! (عدد 16: 31).

أما المثل الأكبر للحسد فهو حسد رؤساء اليهود للمسيح. لقد جاءهم مخلِّصاً، وهو انتظار الأجيال، ومحقِّق النبوات، ولكنهم رفضوه وسلَّموه إلى الوالي الروماني بيلاطس ليصلبه. وعرف بيلاطس بعد فحص دعواهم أن المسيح بريء، وأنهم أسلموه له حسداً (متى 27: 18). لقد حسدوه لأن الشعب تبعه حباً له، وهتف له ثقة به: « أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي! » (متى 21: 9) وقرروا أن يقتلوه. ولما لم يكن لهم الحق في تنفيذ ذلك لجأوا إلى بيلاطس لينفذ ذلك الحكم القاسي.

غريب أمرهم! كان يجب أن يفرحوا بالمسيح المعلم العظيم، صانع المعجزات، المسيا المنتظر. ولكن قلوبهم الخالية من المحبة امتلأت بالحسد، فأسلموه لبيلاطس.

وما أعظم الفرق بينهم وبين يوحنا المعمدان، الذي أحب الله وأحب المسيح، وشهد للمسيح أنه «حمل الله» وقاد تلاميذه ليتبعوا المسيح، وقال عنه: « يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ، وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ » (يوحنا 3: 30). حقاً المحبة لا تحسد.



3- الفرح ينصرنا على الحسد، فالمحبة تفرح بالخير، بينما الحسد يتضايق منه:

من النماذج الرائعة للمحبة التي تفرح بخير الآخرين محبة يوناثان ابن الملك شاول لداود. عندما قتل داود جليات « وَقَطَعَ يُونَاثَانُ وَدَاوُدُ عَهْداً لأَنَّهُ أَحَبَّهُ كَنَفْسِهِ. وَخَلَعَ يُونَاثَانُ الْجُبَّةَ الَّتِي عَلَيْهِ وَأَعْطَاهَا لِدَاوُدَ مَعَ ثِيَابِهِ وَسَيْفِهِ وَقَوْسِهِ وَمِنْطَقَتِهِ » (1صموئيل 18: 3، 4). ولما حسد شاول داود وأراد أن يقتله، حذر يوناثان داود من المؤامرة ودافع عن داود أمام أبيه (1صموئيل19: 2 و20: 32). وطلب يوناثان من داود أن يصنع معه خيراً لما يتولى داود المملكة (1صموئيل 20: 15). لقد أحب يوناثان داود، وفرح بالخلاص الذي أعطاه الله لشعبه على يديه، حتى لو كان هذا يضر مصالح يوناثان الشخصية!

المحبة تفرح لما يزيد الخير، فيعم الجميع، لأنها تعلم أن الإنسان لا يزيد عندما ينقص غيره.

يخبرنا سفر دانيال عن الكرامة التي نالها دانيال في عهد الملك داريوس، حتى أنه « حَسُنَ عِنْدَ دَارِيُوسَ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْمَمْلَكَةِ مِئَةً وَعِشْرِينَ مَرْزُبَاناً (رئيساً) يَكُونُونَ عَلَى الْمَمْلَكَةِ كُلِّهَا. وَعَلَى هَؤُلاَءِ ثَلاَثَةَ وُزَرَاءَ أَحَدُهُمْ دَانِيآلُ لِتُؤَدِّيَ الْمَرَازِبَةُ (الرؤساء) إِلَيْهِمِ الْحِسَابَ فَلاَ تُصِيبَ الْمَلِكَ خَسَارَةٌ. فَفَاقَ دَانِيآلُ هَذَا عَلَى الْوُزَرَاءِ وَالْمَرَازِبَةِ لأَنَّ فِيهِ رُوحاً فَاضِلَةً. وَفَكَّرَ الْمَلِكُ فِي أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَى الْمَمْلَكَةِ كُلِّهَا. ثُمَّ إِنَّ الْوُزَرَاءَ وَالْمَرَازِبَةَ كَانُوا يَطْلُبُونَ عِلَّةً يَجِدُونَهَا عَلَى دَانِيآلَ مِنْ جِهَةِ الْمَمْلَكَةِ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَجِدُوا عِلَّةً وَلاَ ذَنْباً لأَنَّهُ كَانَ أَمِيناً وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ خَطَأٌ وَلاَ ذَنْبٌ. فَقَالَ هَؤُلاَءِ الرِّجَالُ: «لاَ نَجِدُ عَلَى دَانِيآلَ هَذَا عِلَّةً إِلاَّ أَنْ نَجِدَهَا مِنْ جِهَةِ شَرِيعَةِ إِلَهِهِ» (دانيال 6: 1-5).

ألم يدرك أولئك الرؤساء أن نجاح دانيال ليس له وحده، بل للدولة كلها، ولهم هم أيضاً؟ كان يجب أن يشكروا لوجود رئيس وزراء يتمتع بالذكاء والروح الفاضلة والأمانة لتسير جميع أمور الدولة بنجاح وسلام. لكن الحسد أصابهم بالعمى، فلم يروا في دانيال إلا الرئيس الذي يتولى مسئولية مشرّفة، حسبوا أنفسهم أكثر استحقاقاً لها منه، فدبَّروا له مكيدة. ولكن الرب أنقذه منها (دانيال 6).



4- السلام ينصرنا على الحسد، فالمحبة تحيا في سلام، بينما الحسد يحيا في قلق:

كلما أحب الإنسان إلهه أحب إخوته البشر. وكلما أحب الناس امتلأ قلبه بسلامٍ نابع من السماء، يشبه السلام الذي غمر قلب المسيح وهو ماضٍ إلى الصليب، فقال لتلاميذه: « سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ » (يوحنا 14: 27).

أما الذي يحسد فإنه يضيِّع سلامه الروحي وطمأنينته النفسية، لأنه دائم التطلع إلى ما عند غيره، ودائم الإهمال للشكر على ما عنده. وما أجمل النصيحة الرسولية: « فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ. مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً. وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ. وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ» (كولوسي 3: 12-15).

قارِنْ بين السلام الذي ملأ نفس يوسف وهو يكرم أباه وإخوته، وبين القلق الذي عصف بقلوب إخوته، وهم يقولون لبعضهم البعض: ««حَقّاً إِنَّنَا مُذْنِبُونَ إِلَى أَخِينَا الَّذِي رَأَيْنَا ضِيقَةَ نَفْسِهِ لَمَّا اسْتَرْحَمَنَا وَلَمْ نَسْمَعْ. لِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الضِّيقَةُ» (تكوين 42: 21) ثم قارن سلام يوسف وهو راجع من دفن أبيه بكل إكرام، وبين القلق الذي كاد يمزق صدور إخوته وهم يقولون: « «لَعَلَّ يُوسُفَ يَضْطَهِدُنَا وَيَرُدُّ عَلَيْنَا جَمِيعَ الشَّرِّ الَّذِي صَنَعْنَا بِهِ» (تكوين 50: 15). وتُظهِر هذه الكلمات أن القلق كان كامناً داخل نفوسهم يؤرق بالهم طيلة وجودهم في مصر أثناء حياة أبيهم.

المحبة تعطي السلام، والحسد يورث القلق! فلنطلب من الله أن تسود على قلوبنا محبته «التي لا تحسد».

صلاة

أبانا، نشكرك لأنك أعطيتنا وأكرمتنا بسخاء ولم تعيِّرنا أبداً. هبنا أن نرى كيف فتحت يدك فشبِعْنا بالخيرات. فِضْ في قلوبنا بفرح الروح القدس فنفرح بشخصك وبعطاياك. عمِّق محبتك فينا، وانزع الحسد من دواخلنا، وأعطنا أن نكرم انتماءنا إليك بسيرتنا وجهادنا لنحيا الإيمان الذي نعتنقه. في شفاعة المسيح. آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010